في الزمن الماضي كان يعيش في مصر ملك جبار طاغية، يعرف بفرعون، استعبد قومه وطغى عليهم، وقسم رعيته إلى عدة أقسام، استضعف طائفة منهم، وأخذ في ظلمهم واستخدامهم في أخس الأعمال شرفًا ومكانة، وهؤلاء هم بنو إسرائيل الذين يرجع نسبهم إلى نبي الله يعقوب-عليه السلام- وقد دخلوا مصر عندما كان سيدنا يوسف -عليه السلام- وزيراً عليها.
وحدث أن فرعون كان نائمًا، فرأى في منامه كأن نارا أقبلت من بيت المقدس، فأحرقت مصر جميعها إلا بيوت بني إسرائيل، فلما استيقظ، خاف وفزع من هذه الرؤيا، فجمع الكهنة والسحرة وسألهم عن تلك الرؤية فأخبروه بأن غلامًا سيولد في بني إسرائيل، يكون سببا لهلاك أهل مصر، ففزع فرعون من هذه الرؤيا العجيبة، وأمر بقتل كل مولود ذكر يولد في بني إسرائيل، خوفا من أن يولد هذا الغلام.
ومرت السنوات، ورأى أهل مصر أن بني إسرائيل قل عددهم بسبب قتل الذكور الصغار، فخافوا أن يموت الكبار مع قتل الصغار، فلا يجدون من يعمل في أراضيهم، فذهبوا إلى فرعون وأخبروه بذلك، ففكر فرعون، ثم أمر بقتل الذكور عامًا، وتركهم عامًا آخر.
فولد هارون في العام الذي لا يُقتل فيه الأطفال. أما موسى فقد ولد في عام القتل، فخافت أمه عليه، واحتار تفكيرها في المكان الذي تضعه فيه بعيدًا عن أعين جنود فرعون الذين يتربصون بكل مولود من بني إسرائيل لقتله، فأوحى الله إليها أن ترضعه وتضعه في صندوق، ثم ترمي هذا الصندوق في النيل إذا جاء الجنود، قال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين)[القصص: 7].
فجهزت صندوقًا صغيرًا، وأرضعت ابنها، ثم وضعته في الصندوق، وألقته في النيل عندما جاء جنود فرعون، وأمرت أخته بمتابعته، والسير بجواره على البر لتراقبه، وتتعرف على المكان الذي استقر فيه الصندوق.
وظل الصندوق طافيًا على وجه النهر وهو يتمايل يمينًا ويساراً، تتناقله الأمواج من جهة إلى أخرى، ثم استقرت به تلك الأمواج ناحية قصر فرعون الموجود على النيل، ولما رأت أخته ذلك أسرعت إلى أمها لتخبرها بما حدث. وكانت السيدة آسية زوجة فرعون تمشي في حديقة القصر كعادتها، ويسير من خلفها جواريها، فرأت الصندوق على شاطئ النهر من ناحية القصر، فأمرت جواريها أن يأتين به، ثم فتحنه أمامها، ونظرت آسية في الصندوق، فوقع نظرها على طفل صغير، فألقى الله في قلبها محبة هذا الطفل الصغير.
وكانت آسية عقيمًا لا تلد، فأخذته وضمته إلى صدرها ثم قبلته، وعزمت على حمايته من القتل والذبح، وذهبت به إلى زوجها، وقالت له في حنان ورحمة: (قرت عين لي ولك لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وهم لا يشعرون)[القصص: 9].فلما رأى فرعون تمسك زوجته بهذا الطفل، وافق على طلبها ولم يأمر بقتله، واتخذه ولدًا.
ومرت ساعات قليلة وزوجة فرعون تحمل الطفل فرحة مسرورة به، تضمه إلى صدرها وتقبله، وفجأة بكى موسى بشدة، فأدركت السيدة آسية أنه قد حان وقت رضاعته فأمرت بإحضار مرضعة لترضعه، وتهتم بأمره، فجاء إلى القصر عدد كثير من المرضعات، لكن الطفل امتنع عن أن يرضع منهن، مما جعل أهل القصر ينشغلون بهذا الأمر، واشتهر هذا الأمر بين الناس، فعرفت أخته بذلك، فذهبت إلى القصر، وقابلت السيدة آسية زوجة فرعون، وأخبرتها أنها تعلم مرضعة تصلح لهذا الطفل. ففرحت امرأة فرعون، وطلبت منها أن تسرع، وتأتي بتلك المرضعة، فذهبت إلى أمها فوجدتها حزينة على ابنها حزنًا كبيرًا، فأخبرتها بما حدث بينها وبين زوجة فرعون، فهدأت نفس أم موسى وارتاح بالها.
ذهبت أم موسى مع ابنتها إلى قصر فرعون، ولما دخلته أتوها بالرضيع، وبمجرد أن قدمت له ثديها أقبل عليه الطفل وشرب وارتوى، وأخذت الأم ابنها إلى بيته الذي ولد فيه، فعاش موسى فترة رضاعته مع أبيه وأمه وإخوته، ولما عاد إلى قصر فرعون اهتموا بتربيته تربية حسنة، فنشأ وتربى كأبناء الملوك والأمراء قويًّا جريئًا متعلماً.
كبر موسى، وصار رجلاً قويًّا شجاعًا، وذات يوم، كان يسير في المدينة فرأى رجلين يتشاجران، أحدهما من قومه بني إسرائيل، والآخر قبطي من أهل مصر، فاستغاث الإسرائيلي بموسى، فأقبل موسى، وأراد منع المصري من الاعتداء، فدفعه بيده فسقط على الأرض ميتًا، فوجد موسى نفسه في موقف عصيب، لأنه لم يقصد قتل هذا الرجل، بل كان يريد الدفاع عن مظلوم فقط، وحزن موسى، وتاب إلى الله ورجع إليه، وأخذ يدعوه سبحانه أن يغفر له هذا الذنب.
ولكن سرعان ما انتشر الأمر في المدينة، وأخذ الناس يبحثون عن القاتل، ليعاقبوه، فلم يعثروا عليه، ومرت الأيام، وبينما موسى كعادته يسير في المدينة؛ فوجد الرجل الإسرائيلي نفسه يتشاجر مع مصري آخر، واستغاث مرة ثانية بموسى فغضب موسى من هذا الأمر، ثم تقدم ليفض هذا النزاع، فظن الإسرائيلي أن موسى سيقبل عليه؛ ليضربه لأنه غضبان منه، فقال له: (يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس)[القصص: 19].
وعلم المصريون أن موسى هو القاتل، فأخذوا يفكرون في الانتقام منه، وجاء إليه من ينصحه بأن يبتعد عن المدينة. فخرج موسى من المدينة وهو خائف، يتلفت يمينًا ويساراً يترقب أهلها، ويدعو الله أن ينجيه من القوم الظالمين.
خرج موسى وليس في ذهنه مكان معين يتوجه إليه، ثم هداه تفكيره إلى أن يذهب إلى أرض مدين، فتوكل على الله، وواصل السير إليها.
فلما وصل إلى مدين، توجه ناحية شجرة بجوار بئر، وجلس تحتها فوجد فتاتين، ومعهما أغنامهما تقفان بعيدًا عن الازدحام حتى ينتهي الناس، فتقدم موسى منهما، وسألهما عن سبب وقوفهما بعيدًا، فأخبرتاه أنهما لا يسقيان حتى ينتهي الناس من سقي أغنامهم، ويخف الزحام، وقد خرجا يسقيان لأن أباهما شيخ كبير لا يستطيع أن يتحمل مشقة هذا العمل، فتقدم موسى وسقى لهما أغنامهما، ثم عاد مرة أخرى إلى ظل الشجرة ليأخذ المزيد من الراحة بعد عناء السفر. وأخذ يدعو ربه قائلاً: (رب إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير)
[القصص: 24].
ولما عادت الفتاتان إلى أبيهما، قصتا عليه ما حدث، فأعجب الأب بهذا الرجل الغريب وشهامته ومروءته، وأمر إحدى ابنتيه أن تخرج إليه، وتدعوه للحضور حتى يكافئه، فجاءت إليه إحدى الفتاتين لتخبره بدعوة الأب، فلبى موسى الدعوة، وذهب إلى إحدى الفتاتين لتخبره بدعوة الأب، فلبى موسى الدعوة، وذهب إلى هذا الرجل الصالح، فسأله الرجل عن اسمه وقصته، فقص عليه موسى ما حدث، فطمأنه الشيخ، وطلبت إحدى الفتاتين من أبيها أن يستأجر موسى ليعينهما فهو رجل قوي أمين.
وقد عرض الشيخ على موسى-عليه السلام-أن يزوجه إحدى ابنتيه في مقابل أن يعمل عنده أجيرا لمدة ثماني سنوات، أو عشرًا إذا شاء.
فوافق موسى على هذا الأمر، وتزوج إحدى البنتين، واستمر يرعى الغنم عند ذلك الشيخ عشر سنين، ثم أراد موسى الرحيل والعودة بأهله إلى مصر، فوافق الشيخ الصالح على ذلك، وأكرمه وزوده بما يعينه في طريق عودته إلى مصر.
سار موسى بأهله تجاه مصر، حتى حل عليهم الظلام، فجلسوا يستريحون من أثر هذا السفر، حتى يكملوا المسير بعد ذلك في الصباح، وكان الجو شديد البرودة، فأخذ موسى يبحث عن شيء يستدفئون عليه، فرأى ناراً من بعيد، فطلب من أهله الانتظار؛ حتى يذهب إلى مكان النار، ويأتي منها بشيء يستدفئون به.
توجه موسى وفي يده عصاه ناحية النار التي شاهدها، ولما وصل إليها نداء يقول: (يا موسى. إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى. وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى. إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري. إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى. فلا يصدنك نها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى)[طه: 11-16]. ثم سأله الله-عز وجل-عما يحمله في يمينه. فقال موسى: (هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)[طه: 18].
فأمره الله-عز وجل-أن يلقي هذه العصا، فألقاها فانقلبت العصا وتحولت إلى ثعبان كبير يتحرك ويسير بسرعة، فولى موسى من الخوف هاربًا، فأمره الله
-عز وجل-أن يعود ولا يخاف، وسوف تعود عصا كما كانت أول مرة، فمد موسى يده إلى تلك الحية ليأخذها، فإذا بها عصا كما كانت.
وكان موسى أسمر اللون، فأمره الله-عز وجل-أن يدخل يده في ثيابه ثم يخرجها، فخرجت بيضاء ناصعة البياض، فكانت هاتان معجزتين من الله لنبيه موسى، لتثبيته في رسالته المقبلة إلى فرعون وملئه، ثم أمره الله-عز وجل-بالذهاب إلى فرعون لهدايته وتبليغه الدعوة، فاستجاب موسى لأمر ربه، ولكنه قبل أن يذهب أخذ يدعو ربه بأن يوفقه لما هو ذاهب إليه، ويسأله العون والمدد، فقال: (رب اشرح لي صدري. ويسر لي أمري. واحلل عقدة من لساني. يفقهوا قولي. واجعل لي وزيرًا من أهلي. هرون أخي. اشدد به أزري. وأشركه في أمري. كي نسبحك كثيرًا. ونذكرك كثيرا. إنك كنت بنا بصيرا)[طه: 25-35].
فاستجاب الله-عز وجل-دعاءه، فتذكر موسى أنه قتل رجلاً من المصريين، فخاف أن يقتلوه، فطمأنه الله-سبحانه-بأنهم لن يصيبوه بأذى، فاطمأن موسى.
وعاد موسى إلى مصر، وأخبر أخاه هارون بما حدث بينه وبين الله-عز وجل-، ليشاركه في توصيل الرسالة إلى فرعون وقومه، ويساعده في إخراج بني إسرائيل من مصر، ففرح هارون بذلك، وأخذ يدعو مع موسى ويشاركه في نشر الدعوة.
وكان فرعون شديد البطش والظلم ببني إسرائيل فتوجه هارون وموسى
-عليهما الصلاة والسلام-إلى ربهما يدعوانه بأن ينقذهما من طغيان فرعون. فقال لهما الله تعالى مطمئنًا ومثبتًا: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى. فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى. إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى)
[طه: 46-48].