" لو كان الصدق رجلا لكان محمدا صلى الله عليه وسلم"
فيكفي محمدا أن الأعداء شهدوا عليه بالصدق وأجمعوا عليه بالأمانة في
الجاهلية قبل الإسلام فقالوا: ''هذا الصادق الأمين''·· فكيف بعد إذ منّ
الله عليه بالرسالة والهداية وثبّته على الحق فلا يزيغ عنه أبدا، قال
تعالى: ''ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يُضلّوك وما
يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة
وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما''·
محمد صلى الله عليه وسلم أصدق من تكلم، لم يعرف الكذب في حياته جادا أو
مازحا، يكفيه صدقا أن الله ائتمنه على رسالته فأداها للأمة كاملة تامة فلم
ينقص حرفا ولم يزد حرفا· بلّغ الأمانة عن ربه بأتم البلاغ، لم تحفظ عنه
كلمة واحدة خلاف الحق ولا إشارة واحدة غير صادق فيها، فقد قال: ''ما كان
لنبي أن تكون له خائنة الأعين''· فمحمد صلى الله عليه وسلم والصدق كرجل
واحد، كيف لا ومدخله صدق ومخرجه صدق، قال الله تعالى: ''وقل رب أدخلني
مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق''· صدق محمد صلى الله عليه وسلم مع أهله
وأصحابه ومع أعدائه· صدق محمد صلى الله عليه وسلم في الغضب والرضى وفي
سلمه وحربه، فكيف لا يصدق مع أمته فيما بلغ عن ربه؟ بل صدق محمد صلى الله
عليه وسلم مازال يتكرر كلما تكرر الليل والنهار، ويُثبت صدقه العلمُ كلما
تقدم· الصدق يحتاج إلى شجاعة وكذلك كان رسولنا عليه الصلاة والسلام، فقد
كان أثبت الناس قلبا، لا يخاف التهديد والوعيد، فلا يكذب ولو كان السيف
مصلتا فوق رأسه· فوّض أمره لله وتوكل عليه· اكتفى بنصره ووثق بوعده فصمد
في وجه أبي جهل، وسار بجيشه لمواجهة الروم·· كان رسولنا عليه الصلاة
والسلام يخوض المعارك بنفسه، يعرّض روحه الشريفة للموت غير خائف ولا
مرتبك، بل استعدّ للموت مرات، وتمنى لو يقتل في سبيل الله غير مرة فقال:
''والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا
ثم أقتل''· إذا واجه عدوا كان في المقدمة، واحتمى به أصحابه يوم أحد، وثبت
هو وستة من أصحابه يوم حنين، إذ فرّ الناس من حوله وقلب الهزيمة إلى نصر·
محمد صلى الله عليه وسلم أول من سنّ الجهاد في الإسلام وحثّ عليه، فكيف
يكون جبانا؟
هو قدوة مجاهدينا وأسوة أبطالنا ومدرسة شجعاننا، فكيف يكون خوّارا؟ اضطربت
المدينة على إثر صوت بليل فهبّ لمعاينته، فإذا رسول الله صلى الله عليه
وسلم قادم من جهة الصوت قد عاينه وأمّن الناس من خوفهم وهلعهم·
لقد مرّت بالنبي صلى الله عليه وسلم مصائب ومصاعب ومشاق فما وُجد إلا
صابرا محتسبا، نزلت عليه آيات كثيرة تحثه على الصبر، قال الله تعالى:
''واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون''··
وقال: ''فاصبر بحكم ربك''·· فما زادته هذه الآيات إلا شموخا في الصبر، صبر
في صغره على اليتم والفقر، وصبر بعد نبوّته على الحسد والشماتة، وصبر على
الطرد من الوطن· مات عمه وزوجته فصبر، وقتل حمزة رضي الله عنه وتوفي ولده
فصبر· رميت زوجته وأحب نسائه بهتانا وزورا فصبر·· صبر رسولنا عليه الصلاة
والسلام على أهوال تشيب لها الرؤوس، فقد مكر به اليهود وكاد له المنافقون
وتجمّع عليه الأحزاب وآذاه الأعراب الغلاظ، فنزل عليه قول الله عز وجل:
''فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسول''· وقال نبينا عليه الصلاة والسلام
متواضعا: ''رحم الله أخي موسى أوذي أكثر من هذا فصبر''· رسولنا إذا ذكر
عنه بأنه شجاع صبور فلا يعني أنه فظ غليظ ممتلئ جفاء، بل كان حليما عفوّا
يكظم غيظه ويصفح ويتنازل عن حقوقه الخاصة ما لم تكن حقوقا لله جلّ وعلا،
قال له ربه: ''فاصفح الصفح جميل''·· فكان لا يجازي السيئة بالسيئة، كان
يغضب ولكن لا يغلبه غضبه بل يبتسم أحيانا ويزداد حلما أحيانا كثيرة· كان
يدعو للحلم والعفو فقال عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ''من كفّ غضبه كفّ
الله عنه عذابه''· كان يدعو إلى الحلم ويحث عليه ويعمل به في مواقف كثيرة
فقال يوم الفتح لمن طردوه وعذبوا أصحابه وقد تمكّن منهم: ''اذهبوا فأنتم
الطلقاء''· آذاه المنافقون في زوجته فما انتقم لنفسه بعد أن برّأها الله
مما قالوا، كان يبلغه حديث الناس فلا يتتبعه، ويبلغه الكلام السيئ فلا
يعاقب عليه، ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ''لا يبلّغني أحد منكم
ما قيل فيّ، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر''· سماحته عليه
الصلاة والسلام عمت الناس ووسعت حتى خدامه، يقول أنس رضي الله عنه: ''خدمت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما قال لي في شيء فعلته، لم فعلت
هذا ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعل هذا؟''· رسولنا لم يكن حليما متسامحا
فحسب، بل كان ضحوكا مازحا جادا في مزاحه وضحكه، ربما يأمر فيصاحب أمره
وتكليفه وطلبه بسمة وبشاشة تنسي المأمور مشقة الفعل والتكليف·· فسبحان
الذي أكرم نبيه ببسمة وضحك ودعاب تتناقلها أمته في كتب العلم· وتبارك الذي
شرّف نبيه حتى صار مزاح النبي ينقل إلى الأمة كأنه فريضة قائمة أو عبادة
مطلوبة حتى يقتدى به عليه الصلاة والسلام، أتته عجوز تلتمس منه الدعاء لها
بدخول الجنة فقال لها جادا مازحا: ''لا يدخل الجنة عجوز'' فولّت تبكي،
فدعاها وقال: ''أما سمعتِ قول الله تعالى: ''إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن
أبكارا عرُبا أترابا''·· أي سوف تدخلينها، ولكن لن تدخليها عجوزا بل فتاة
شابة· وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ''إني أريد أن تحملني
يا رسول الله على جمل''، فقال النبي جادا مداعبا كأنه متأسف: ''لا أجد لك
إلا ولد الناقة'' فظن الرجل أن ولد الناقة صغير لا يصلح لأن يكون راحلة
فانصرف، فدعاه النبي وقال ''وهل تلد الإبل إلا النوق'' أي أليس الجمل
القوي ولد الناقة؟ فأعطاه· كان مزاح النبي تأليفا للقلوب، ودعابته سكنا
للنفوس، ولكنه جدّ وحق· كان ضحكه عليه الصلاة والسلام طاعة لربه وأسوة
لأمته، ينشط به الأرواح ويشرح به الصدور، لا يضحك الضحك المميت للقلب
المذهب للحياء، لا يضحك لأجل الضحك الذي يقتل الوقت ويضيّع الواجب ويكسب
الإثم والذنب، بل ضحكه معتدل في وقار، ضحك رجل أحسن الله في سيرته وخلقه
فوصفه بقوله: ''وإنك لعلى خلُق عظيم''·
"اللهم أجعلنا من رفقاء النبي في الجنه"