تأملات فى سورة الطارق
نقف أمام آيات سورة الطارق، و هي إحدى قصار السور فى القرآن الكريم، كي
نحـاول من خلال ما توصلت إليه علومنا الحديثة، أن نعيد الـتدبر فى هذه
الآيات الكريمة، لكي نرى نورا آخر يضاف إلى أنوار القرآن الكريم المبهرة
فى كتب التفسير السابقة. يقول الحق فى هذه السورة: (وَالسَّمَاء
وَالطَّارِقِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ {2} النَّجْمُ
الثَّاقِبُ {3} إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ {4}
فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ {5} خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ {6}
يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ {7} إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ
لَقَادِرٌ {8} يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ {9} فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ
وَلَا نَاصِرٍ {10} وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ {11} وَالْأَرْضِ ذَاتِ
الصَّدْعِ {12} إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ {13} وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ {14}
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا {15} وَأَكِيدُ كَيْدًا {16} فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا)[سورة الطارق].يقسم الحق فى
بداية هذه السورة بالسمـاء، هذا البناء الشامخ البديع بسحبه و رياحه،
بشمسه و قمره و نجومه و أبراجه، باتساعه و نظامه، بصفائه و ألوانه وسحره،
بسكونه و جلاله و جماله و أسراره، بقوانينه و طاعته و تسخيره وهدايته،
بنهاره و ليله و شفقه و ضحاه، بشروقه وغروبه، بلا نهائيته و غموضه و فتونه
و فنونه، بكل شيء فيه يشهد على أن له خالقاً قادراً حكيماً عليماً منظماً
مبدعاً ومصوراً... هو الذي صوره فى عيوننا بهذا السحر وتلك الألوان
المبهرة فى الليل والنهـار... وأن له مالكاً عزيزاً عظيما قدوسا نظمه لنا
بهذا الإبداع و هذا الاستقرار الذي لا يتبدل حتى نشهد على وحدانيته وكماله
وأن هناك حياً قيوماً يدبر أمره ويهدى حركاته ويحفظ سكناته ويملك مقاليده
التي تقرهـا أبصارنـا وبصائرنا وعقولنا وعلومنا و قلوبنا وأجهزتنا
وأقمارناً.
ثم يوجه الخالق سبحانه أنظـارناً إلى أمر آخر فى السمـاء يقسم الحق سبحانه
وتعالى به، شيء ليس من السهل إدراكه، شيء سمـاه الخالق بكلمة " الطارق "
حيث يقول فى بداية السورة " و السماء والطارق " وأعقب الله هذا القسم
بقوله " ومـا أدراك ما الطـارق "، ثم عرفه الحق سبحانه و تعالى فى الآية
التالية بالقول الواضح أنه هو " النجم الثاقب "، و تعالى نرى ماذا اكتشف
العلم الحديث فى أمر السمـاء ثم نعيد النظر فى أقوال المفسرين السابقين
لهذه الآيات.
فقد استمع الراصدون للموجات التي تنطلق بين السماء والأرض حاملة لنا ما
تبثه محطات الإرسال المختلفة من رسائل وأخبار عن طريق ما نسميه بالأقمار
الصناعية، كي نتابع أحداث ما يجرى فى كل بقعة من بقاع الأرض أولا بأول،
استمعوا إلى طرقات قوية تصم الآذان، طرقات منظمة كما لو أنهـا أرسلت بإحدى
الشفرات مثل شفرة مورس كي تبلغ أهل الأرض رسـالة محددة و لكن دون أكواد
معروفة ليسهل ترجمتهـا كما يحدث فى التخاطب المكود أو المشفر بين أجهزة
المخابرات أو الدول التي بينهـا أسرار، هذه الطرقات تأتى من أماكن بعيدة
أبعاد ساحقه فى هذا الكون الممتد إلى ما لا نصل بأبصارنا أو بصائرنا إليه،
فمن المؤكد أنهـا أرسلت من مصدر ذو قوة جبارة حتى يمكن أن تقطع هذه
المسافات الشاسعة و تظل محتفظة بقوتها وعنفهـا، و لكن من أرسلهـا، هل هناك
بشرا عقلاء فى أجرام بعيدة تبعد عنا ملايين السنين الضوئية ... أي أن هذه
الموجات ظلت تنطلق بسرعتهـا ( و هي سرعة الضوء ) منذ ملايين السنين لتقطع
أثناءهـا هذه المسافات الشاسعة التي بيننا وبين مصدر هذه الأمواج...
وأرسلوا إلينا برسائلهم منذ هذا الزمن السحيق، و ينتظرون منا الرد الذي
سيصلهم أيضا بعد عدة ملايين أخرى من السنين... أو ما هي الحقيقة فى هذا
الشأن.
و حديثا، اكتشف العلماء أن القرآن رد على استفساراتهم بالقول الأكيد ...
لقد اكتشفو أن هناك نجوماً يزيد حجمهـا عن حجم الشمس بآلاف المرات يأتي
عليهـا وقت وتفقد قدرتهـا على الاستقرار أو التواجد... وهنا تموت أو تنتهي
حياتهـا كما تنتهي حياة البشر عند أجل محدد... وعند هذه اللحظة ينهار
النجم وتعلن وفاته وانتهاء حياته فيتحول هذا الحجم الهائل إلى لا شيء، نعم
لا شيء على الإطلاق تقريبا، وأين تذهب هذه الكتلة الهائلة وهذا الحجم
الرهيب، إن مادتها تتحول فى هذه اللحظات إلى مادة مكدسة لا يوجد داخل
ذراتهـا أي فراغ، و المعلوم أن حجم أي ذرة فى هذا الكون الفسيح ينشأ من
حركة الإلكترونات بداخلهـا حول النواة فى حلقات دائرية وبسرعات هائلة
منتظمة كما لو كانت تسبيحا ثابتـا وطاعة مطلقة دائمة لخالقهـا و
مقدرهـا... وبدون هذا التسبيح الذي فرضه الله داخل الذرة يتلاشى حجم الذرة
وتصير بلا حجم تقريبا، وهذا الفراغ المملوء بحركة الالكترونات وتسبيحها هو
الذي يعطى المادة المحدودة كيانهـا وحجمها، و يبدأ انهيار النجم باضطراب
حركة الكتروناته ثم انعدام الفراغ داخل ذراته، وفى هذه اللحظة يهوى النجم
ويصير بلا حجم تقريبا، وقد عبرت الآية الكريمة فى أول سورة النجم عن هذه
اللحظة بقول الحق "و النجم إذا هوى "... أي يتحول النجم الهائل إلى قزم
بلا حجم، أو يتحول إلى مادة لهـا كثافة لا نهائية، ووجدوا أن للمادة
المكدسة بهذه الحالة قوة جذب هائلة، بحيث ينجذب إليهـا أي كوكب أو جسم
يقترب منها وتبتلعه وتجمد الحركة داخل ذراته، فيتحول فى لمح البصر إلى لا
شيء، من ينظر إلى ما يحدثه هذا النجم فى السماء يعتقد أن السماء بها ثقب
فى هذا الموضع تخرج منه هذه الأجسام التي يمتصهـا هذا النجم إلى لا عودة،
و لهذا أطلق علماء الغرب على هذا النجم المنهـار اسم الثقب الأسود”Black
Hole"، و عند انهيار هذا النجم تتجمع شحناته السالبة إلى جانب والشحنات
الموجبة على الجانب الآخر، و يدفعه هذا التجميع للشحنات إلى الدوران حول
مركز النجم بسرعات هائلة، و تنشـأ عن حركة دوران النجم فى حالته هذه إصدار
موجات كهرومغناطيسية متقطعة تعتمد على سرعة دوران النجم... بحيث تبدو
عندما يلتقطهـا أي جهـاز استقبال على شكل طرقات هائلة منتظمة، يهيأ لمن
يلتقطهـا أن هناك كائنـات عاقلة تحاول أن تخاطبـنـا بهذه الطرقات التي حار
العلمـاء فى تفسيرهـا.
هكذا أدرك العلمـاء منذ وقت قريب جدا، مـا هو هذا الطـارق الذي يرسل
طرقاته و نبضاته فى السمـاء، إنه كما أطلق عليه علمـاء الغرب " النجم
الثاقب "، و هكذا يطلق عليه القرآن نفس الاسم المعبر عما يصير إليه حال
النجم إذا هوى و أصبح كهلا أو نجما ثاقبا فى السماء يصدر أنينه وطرقاته،
هكذا عبر عنه القرآن منذ أربعة عشر قرنـاً بهذه الآيات الكريمة " و ما
أدراك ما الطارق.. استـفهـام.ب " هكذا الإعجاز فى القرآن... استـفهـام .
ليحاول الإنسان أن يجهد عقله ويعمل فكره الذي ميزه الله به ليتفكر فى شئون
هذا الكون بالبحث والعلم والتنقيب كما تنص عليه أحدث المدارس التربوية فى
التعليم... ثم يأتي القول الفصل من خالق كل شيء والعليم بكل شيء ومسير كل
شيء ومدبر كل شيء... لقد حزا علماء التربية حذو القرآن فى التلقين وتوصيل
المعلومة... اسـتفسار كي يستوعب المتعلمون قيمة المعلومة... ثم الإجابة
الصحيحة المراد تلقينهـا... فهو يخاطب الأولون عن أشياء لم تبد لهم بعد...
حتى يستيقن الآخرون من المعلومة بعد أن ينظروا فى ملكوت السماء والأرض...
لقد سمى العلمـاء هذا النجم بعد جهد جهيد واكتشافات مضنية بالثقب الأسود،
و بلا شك أن الاسم الذي أطلقه القرآن على هذا النجم الذي يرسل هذه الطرقات
المنتظمة هو أبلغ من الاسم الذي أطلقه العلمــاء، فهو نجم ولكنه صار بلا
امتداد أو حجم، فقد هوى داخل نفسه وبدا كما لو أنه ثقب السماء فى موضعه
فصار هذا الموقع كما لو كان مخرجا لكل جسم من السماء.. أي أنه ما زال
نجماً و لكنه بانهياره أصبح ثاقباً فى السماء يتحول من خلاله كل جسم فى
السماء من طبيعته الممتدة إلى لا شيء ويصير بلا وجود له كأنه خرج من مكان
مثقوب فى السماء... ولا أستبعد أن يكون الغرب هو الذي قلد القرآن فى وضع
هذا الاسم للنجوم المنهـارة، فالغرب درس القرآن فى جامعات إسلامية فى أول
نهضته، و منهـا استمد مقومات هذه النهضة من علوم و مبادئ.
و بداية السورة بهذا القسم للتدليل على أن ما يحفظ للسماء امتدادهـا
ولأجسامنا بقـائهـا هو التسبيح الدائم لكل شيء ولكل ذرة ما بين السماء
والأرض بالطريقة التي حددهـا لهـا الله سبحانه وتعـالى... فإذا توقف
تسبيحهـا بأمر الله، صارت إلى لا شيء، و تحولت إلى النقيض، ولهذا كانت
الآية التالية بعد هذه الآيات " إن كل نفس لمـا عليهـا حافظ "، فمـا يحفظ
لنا هذا الامتداد والوجود والحياة هو أمر الله وتدبيره الذي يقوم به كل
شيء وأي شيء، أي تسبيح كل شيء بداخلنا له سبحانه وتعالى، سواء الذرات التي
بداخلنا و عددهـا فى أي جسم يزيد عن واحد أمامه 120 صفرا، ثم تسبيح
الأجهزة الدورية والتنفسية والهضمية والعصبية و الأنسجة والأعضاء
والخلايا، أنه هو الحافظ لنا فى وجودنا و بقائنا و امتدادنا و فى كل شيء.
هكذا أدركنا أن النجم الثاقب كان نجماً هائلاً ثم تحول إلى لا شيء و كان
فى بداية الخلق أيضاً لا شيء وأمر الله بحكمته أن يكون له هذا الامتداد ثم
الفناء فى اللحطة التي يقررها الخالق... وهكذا الإنسان فقد خلقه الله من
نصف خلية من الرجل و نصف خلية من المرأة لا يتعدى حجمها 3 أجزاء من واحد
من مليون من الملليمتر ... جاءت في ماء دافق يخرج من بين الصلب
والترائب..ثم كان له هذا الوجود... ثم يصير تراباً ولا شيء... ثم بعيده
الله مرة أخرى يوم القيامة... هكذا جاءت الآيات التالية بهذه المعاني
مجتمعة.... " فلينظر الإنسان مما خلق... خلق من ماء دافق... يخرج من بين
الصلب والترائب ... إنه على رجعه لقـادر... يوم تبلى السرائر"... هكذا
يقابل القرآن بين القسم بقدرة الله التي أعادت هذا النجم من هذا الحجم
الهائل إلى نجم نسمع منه طرقات و لا يكاد يراه أحد إلى قدرته على أن يعيد
هذا الإنسان مرة أخرى إلى ما كان عليه بعد أن يصير عدمـا... هذا الإنسان
الذي جعل خلقه من واحدة من خلايا متدفقة مع السائل المنوي... وهو سائل
يصنع داخل النخاع الشوكى بين العظام الصلبة فى العمود الفقري أو عظام
القفص الصدري و بين رقائق أو ما أطلق عليها الخالق الترائب، و مازال العلم
الحديث يحبو فى اكتشاف هذا النص الكريم، و كل ما ذكر أن العصب الذي ينقل
الإحساس إلى الخصية و يساعدهـا على إنتاج وتدفق الحيونات المنوية وما
يصاحب ذلك من سائل متفرغ من العصب الصدري الذي يغادر النخاع الشوكي
بالعمود الفقري وبين الضلعين العاشر والحادي عشر.. وما يهمنا أن الآية تنص
على أن الذي خلقهم من هذه الخلية المتناهية فى الصغر التي صنعهـا الله
بحكمته داخل أجسامهم، فى أماكن لا يعلمونهـا، قادر أيضا بعد فنائهم
وتحولهم إلى العدم على إرجاعهم بشرا كما كانوا... و هذا سيحدث كما تذكر
الآيات يوم القيامه... ولكن الله أطلق اسمـا جديداً على يوم القيامة لا
يقدر على إن يأتي به سوى الخالق العالم بالأسرار، فأسماه " يوم تبلى
السرائر"... ففي هذا اليوم لن تختبر العقول التي يمكن أن تكون لهـا قوة
السيطرة على الحواس والنطق والتعبير... و لكن الابتلاء سوف يكون ابتلاء
قلوب و ضمائر ونوايا و أسرار أخفيناه عن الخلق، فهل تكون لنا القدرة على
إخفائهـا عن الخالق... فالأسئلة
سوف توجه من خالق الحواس و ما سجلته من أسرار إليهـا مباشرة بلا وجود أي
تحكم أو حكم سوى حكم الله الخالق العليم القدير القوى العزيز... وسوف يحكم
الله فى هذا اليوم الحكم الفصل فى نوايانا وضمائرنا لكل ما قدمناه من
أعمال... سوف يبتلى ما أخفيناه وأضمرناه فى قلوبنا من سوء أو خير لنجزى به
على ما قدمناه من أعمال... فلا نستطيع أن نتدخل مهمـا كانت قوتنـا التي
تمتعـنا بها فى الدنيا... سواء كانت قوة عقل أو جسد... ولن تنفعنـا
معارفنـا أو أبنائنا أو أحزابنـا، لن يستطيع حاكم أو كبير أن يتدخل لنـا
أو ينصرنا... فلا ناصر لنـا سوى لله و النية الصادقة لأعمالنـا... ولهذا
جاء قول الحق " فمـا له من قوة و لا نـاصر"... فالاستعداد لهذا اليوم يكون
بتنقية النوايا و بإيقاظ الضمائر و تطهير القلوب... لا بتقوية الأبدان و
إقامة القلاع و معرفة الحكام و الواصلين... إنهـا السرائر التي سوف تبتلى
و ليست المهارات و النفاق و الرياء و المعارف و الوسطاء و المحامون و
المتشدقون.
ثم يأتي قسم الله مرة أخرى بالسماء وسر آخر فيهـا... إنهـا ذات الرجع...
هذا ما تبينه العلمـاء فى القرن الماضي وبعد قرون عديدة... أن الله يسلط
الشمس بحرارتهـا و الرياح بحركتهـا فتثير سحـابا.. أي تخرج من البحر
المالح جزيئات الماء العذب فيتكون منها السحاب ويظل صاعدا فى السماء حتى
منطقة الرجع... وهي منطقة يرجع منهـا السحاب الصاعد من الأرض و بحـارهـا
المالحة على هيئة بخار الماء ليعود بتسخير الله إلى الأرض وأنهـارهـا
العذبة على هيئة قطرات الماء التي تحيا بها الأرض بعد موتهـا... إنهـا
قوانين الله وتدبيره بحكمته وعلمه الذي يحفظ للأرض مائهـا و للحياة عليهـا
استمرارها...
و لهذا يقسم الله بمـا خلقه بعزته و قدرته و عظمته بهذا القول " و السماء
ذات الرجع"، و يرى آخرون أن سمائنا الدنيا ترجع وتصد عنا تلك الشهب
والإشعاعات وما لا نعلمه من أضرار يمكن أن تصيب أرضنـا، هذه الكرة الصغيرة
جدا فى هذا الكون اللانهائي.
ثم يعظم الله شأن هذه الأرض التي احتوت حياة البشر الذين كرمهم الله
عليهـا، حيث يقسم الله بها فى الآية التالية، و بخاصية خصهـا خالقها بهـا
لتتوافق مع السماء ذات الرجع بقوله " و الأرض ذات الصدع "...
فمـا أعظم أسرار الأرض التي أقر بهـا العلمـاء... لقد وجد العلمـاء أنه من
بين بلايين الكواكب فى هذا الكون الممتد لا يستطيع أي كوكب آخر أن يحتضن
الحياة عليه سوى الأرض التي خصهـا الله بصفات ومميزات لم يتيحهـا لغيرهـا
من بلايين الكواكب حولها... حجمهـا و حجم شمسهـا وبعدهـا عنهـا ثم حجم
مجرتهـا... سرعتهـا حول الشمس و حول نفسهـا وسرعة شمسهـا ومعدلات
احترقهـا... تكوينهـا و تضاريسها وكرويتها... ميلهـا واستقرارهـا واستقرار
طبيعتهـا... سمائهـا وجوهـا وغلافهـا... حجم قمرها والكواكب التي من حولها
و أبعاد النجوم الأخرى عنهـا... كتلتها وكتلة شمسها وكتلة قمرهـا وكتل
الكواكب من حولها... وأسرار أخرى لا نستطيع حصرهـا وأسرار لم يطلعنا الله
عليهـا... كلهـا تدل على أن وراء قدرة الأرض على احتضان هذه الحياة خالق
مدبر وقدير و قادر وعليم وحكيم ومالك وحى وقيوم ومهيمن وعزيز وحق... و
لهذا يقسم الله بهـا إشارة إلى دلالاتهـا ثم يقسم بخاصية لهـا لم يكتشفهـا
العلمـاء إلا حديثـا... و هي أنهـا ذات صدع... وكلمة الصدع يمكن أن تعد
إشارة إلى وجود هذا الصدع الهائل فى القشرة الأرضية... وهذا الصدع يتيح
للأرض أن تختزن من خلال هذا الصدع أكثر من 97 % من مياه الأمطار الساقطة
عليهـا كمياه جوفية يتاح استخدامهـا بالعديد من الوسائل و السيل... إنهـا
مقابلة بين السماء ذات الرجع و الأرض ذات الصدع و كلاهمـا يتعلق بالمـاء
العذب الذي تحيا به الأرض و منهـا جعل الله كل شيء حي... إنهـا مقابلة لا
تتأتى إلا من خالق كل شيء و العليم بأسرار كل شيء فكانت بهذا اليسر و هذه
الطلاقة... وهذه المعلومات والعلم والفكر والمنطق والإعجاز.
وعلى ماذا كان القسم الثاني... لنقرأ الآيات " إنه لقول فصل... و ما هو بالهزل... إنهم يكيدون كيدا.. و أكيد كيدا... فمهل الكافرين... أمهلهم رويدا "... إنه
قسم بهذه الدلالات التي لا تقبل الشك على أن ما جاء به القرآن هو القول
الفصل... أي قول فاصل بين الحق والباطل... قول يفصل بين المؤمنين و
الكافرين... بين أهل النار و أهل الجنة... بين أهل العلم و أهل الجهل...
قول ليس به شائبة هزل... جاء لينذر بيوم الدين... يوم تبلي الضمائر... وثم
جاء هذا التهديد... أن المكذبين بالقرآن وبيوم الدين الذين ينصب كيدهم على
إنكار أن هذا هو الحق وأن الله حق وأن يوم القيامة حق... و يكيدون لرسوله
و للمؤمنين... سيقابل الله كيدهم ومكرهم بكيد متين لا دافع له من الله...
فالجزاء من جنس العمل... أي كيد ضعيف لبشر جهلاء بكيد قوى متين من رب
العالمين... ولهذا فـلك يا محمد أن تطمئن لعقاب الله الذي ينتظر المكيدون
و تمهل الكافرين إمهالا قريبا حتى يأتي الله بأمر حاسم يقطع دابرهم ...
وقد نصر الله الإسلام حقا بعد عدة سنوات من نزول هذه الآيات المكية عندما
دخل الإسلام مكة منتصرا رافعا رايات الحق لتتحقق نصرة الحق و هزيمة
الباطل... و يتحقق قوة كيد الله و ضعف كيد الكافرين و تنحني رقابهم أمام
جند الله الأقوياء بإيمانهم و إخلاصهم.
هكذا كانت هذه السورة من قصار سور القرآن الكريم التي لا تتعدى آياتهـا 17
آية قصيرة شاملة معاني وإشارات علمية ومقابلات لغوية وموسيقى نثرية ونصح و
تهديد و هداية و تبصير و حكمة و علم و نور و تسبيح لا يمكن لأي بشر أن
يأتي بمثله و لو اجتمع له كل البشر، وما قدم فى هذا العرض لا يعدو عن ذرة
فيما تنص عليه حقا هذه الآيات التي لا يعلم تأويلهـا الحق إلا الله، ذرة
يقدمهـا متخصص فى فرع يسير من العلوم التي أتاحهـا الله لنـا، ولكل متخصص
فى الفروع من العلم الأخرى قولا يمكن أن يفوق حقا كل ما قيل... فبأي حديث بعده يؤمنون.