بعد حادثة ( قصة الفيل ) حدث في هذا العام – عام الفيل – أن ولدت آمنة محمدا ً خير خلق الله جميعا ً سيد المرسلين وإمام المتقين والمبعوث رحمة للعالمين – صلى الله عليه وسلم - ، ولم تشعر آمنة بألم ولادة ولا ساعة عسرة ولا متاعب حمل وخرجت جاريتها أم أيمن مسرعة لتخبر جده عبد المطلب فسابق فرحته وحمله وخرج مسرعا ً إلى الكعبة ليباركه فيها ، وطاف بها ثم سماه محمدا ً .
حليمة السعدية
* كان من عادة العرب أن يحضروا لمواليدهم المراضع من أهل البادية حيث الهواء النقي كي ينشأ الأولاد أكثر ذكاءً وأصح أجساما ً ، وكانت المراضع تأتي لتأخذ أبناء الأسر الكبيرة الثرية .
فلما علمت المرضعات أن محمدا ً يتيما ً رفضنه ، وذهبن إلى غيره ، وعادت المراضع جميعهن إلى أرضهن بأولاد إلا حليمة السعدية ، كانت ضعيفة ومعها ابنها وناقة مسنة رفضت محمدا ً في البداية ولكنها عادت بعد ما رق قلبها لليتيم فأخذته رغم بؤس حالها ، وتمنت أن يفتح عليها ربها بقدومه معها .
فلما توجهت إلى قبيلتها " بني سعد " وكانت أرضها قاحلة جدباء حلت بركة محمد على كل شيء حول حليمة ، فإذا الأغنام ترعى وتأكل وتدر الألبان .
فتعجبت زميلاتها وجعلن يسألنها : ما هذا الخير الذي أصبحت فيه يا حليمة ؟
فكانت تقول : إنه ببركة هذا اليتيم ، ولم تدر أنه سيكون له شأن عظيم .
* ظلت حليمة ترضع عبد الله ابنها ومحمدا ً معه حتى شب عوده ونما جسمه ، فلما أتم العامين أصبح محمد جميلا ً وذكيا ً فأعادته لأمه ، ثم عادت به بعد ما رجت أمه آمنة أن يظل معها .
* وذات يوم جاءها عبد الله يجري ويلهث وينادي على أمه بصوت كله خوف ولونه شاحب ، وأخذ يحكي لأمه ما حدث لأخيه في الرضاعة ، أنه أخذه رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاه ( أرقداه ) ثم شقا بطنه وأخذا يسوطانه .
أسرعت حليمة ومعها زوجها إلى حيث كان محمد ، وسألته حليمة : ما لك يا بنى ؟
قال لها – صلى الله عليه وسلم - : جاءني رجلان عليهما ثياب بيض فأضجعاني وشقا بطني والتمسا شيئا ً لا أدري ما هو .
حملت حليمة محمدا ً وقبلته ثم عادت به إلى خيامها وقد تملكها الخوف عليه أن يكون قد أصابه مس من الشيطان وحدثت زوجها بمخاوفها وقررت أن تعود به إلى أهله .
* لما رأت آمنة ابنها قد عاد مبكرا ً وهي كانت ترجو أن ينمو في البادية فينشرح صدره ويقوى بدنه ، سألت حليمة : لماذا عدت به ؟ فأخبرتها حليمة بما حدث لمحمد – صلى الله عليه وسلم - .
قالت آمنة : أتخوفت عليه الشيطان ؟ !
قالت حليمة : نعم .
قالت آمنة : كلا والله ما للشيطان على ابني من سبيل ، وإنه سيكون له شأن عظيم ، فما شعرت بحملي به وإنني حين ولدته رأيته رافعا ً رأسه إلى السماء ، ورأيت كأن نورا ً يخرج مني أضاء قصور بصرى ( دمشق بالشام ) .
* روى ابن اسحاق :
* لما بعث النبي – صلى الله عليه وسلم – روى حادثة شق الصدر هذه فقال : استرضعت في بني سعد بن بكر ، فبينما أنا مع أخ لي خلف بيوتنا نرعى بهائم لنا ، إذ أتاني رجلان عليهما ثياب بيض معهما طست من ذهب مملوء ثلجا ً ثم أخذاني فشقا بطني واستخرجا قلبي فشقاه فاستخرجا منه علقة سوداء فطرحاها ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثلج حتى أنقياه ، ثم قال أحدهما لصاحبه : زنه بعشرة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم ، قال : زنه بمائة من أمته فوزنني بهم فوزنتهم ، ثم قال : زنه بألف من أمته فوزنني بهم فوزنتهم ، فقال : دعه عنك فوالله لو وزنته بأمته لوزنها – أي : إنه في الفضل والخير أكثر منهم - .
وفاة آمنة
ولما بلغ الرسول السادسة من عمره أخذته آمنة إلى المدينة ليزور أخواله وأخذت معها جاريتها أم أيمن .
ظلت آمنة ومحمد – صلى الله عليه وسلم – عند أخواله شهرا ً يتمتعون بجو المدينة اللطيف ، وانتهت الزيارة وفي طريق العودة مرضت آمنة ، وماتت في الطريق عند قرية اسمها ( الأبواء ) ودفنتها أم أيمن بها .
بكى محمد – عليه الصلاة والسلام – لفراق أمه وعاد إلى مكة .
وزاد حنو وحنان عبد المطلب على حفيده اليتيم فكان يحبه ويعطف عليه ويحاول أن يعوضه عن حنان الأبوين .
وقد لمس من أخلاق محمد – صلى الله عليه وسلم – الهدوء ، وحسن الخلق ، والأدب الجم ( أخلاق الأنبياء ) .
" وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ " .
[القلم : 4]
كان لعبد المطلب فراش يوضع له في ظل الكعبة لا يستطيع أحد من أولاده أن يجلس عليه إجلالا ً لمكانة أبيهم واحتراما ً له .
فلما جاء محمد – عليه أفضل الصلاة والسلام – وجلس ذات يوم على فراش جده ، حاول أعمامه أن يبعدوه عن فراش جده ، فقال لهم عبد المطلب : دعوا ابني فوالله إن له لشأنا ً عظيما ً ، وأجلسه بجواره وأخذ يربت عليه في حنان وعطف .
وفاة عبد المطلب
كان أبو طالب أكثر أبناء عبد المطلب حنانا ً وعطفا ً على سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – لكنه كان قليل المال كثير الأولاد .
ولحنانه وعطفه على محمد – عليه الصلاة والسلام – طلب منه عبد المطلب أن يكفل محمدا ً – صلى الله عليه وسلم – بعده .
مات عبد المطلب وحزنت عليه قريش جميعها وبكى محمد – عليه الصلاة والسلام – على جده .
وعاش في كفالة عمه أبي طالب يرعاه ويحنو عليه وضمه إلى أولاده ، وكان أبو طالب لا يأكل إلا معه ولا ينام إلا ومحمد – صلى الله عليه وسلم- بجواره .
كان محمد – عليه الصلاة والسلام – في طفولته كثير الصمت والتأمل ، وكان يكره الأصنام ولم يله كما يلهو الفتيان في سنه .
وكان يفضل غيره على نفسه ، ويعطف على الطير والحيوان والناس ويعطي طعامه للقطط والأطفال الفقراء ،وربما بات جائعا ً ، لأنه رأى من يحتاج الطعام فأعطاه له وترك نفسه بلا طعام .
وكان فقيرا ً فاشتغل راعيا ً للغنم – مثل موسى وداوود – عليهما السلام -